الحمد لله الذي فضل بعض الأيام على بعض، وفضل بعض الليالي على بعض، وفضل بعض الأماكن على بعض، ثم أرشدنا ودلنا على ذلك لنغتنم الفرصة، ونستثمر هذه المواسم المباركة في الطاعات و الإكثار من عمل الصالحات، ونتقرب إلى الله بالمسارعة في الخيرات، ونبعد أنفسنا عن المعاصي والمنكرات، وأن نستعين على ذلك بتذكر الموت، وعذاب القبر، ونتذكر اليوم الآخر، ونشتاق للجنات والنعيم، ونفر من النار وصفات أهلها، وبذلك نحاول أن تزود بالتقوى فنحن قد منحنا فرصا عظيمة لحصول الأجر ومغفرة الذنوب ورفع الدرجات؛ للوصول للقلب السليم الذي ينفع العبد يوم الدين، "يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ".
منحة جديدة، وفرح بعد حزن:
مَن منَّا لم يحزن لفراق شهر رمضان الكريم، على ما فيه من فضائل وخصائص لا تجتمع في غيره؛ والكل تمنى لو طالت تلك الأيام المباركات ليزداد تقربًا وتعبدًا لله، وينال ثوابًا عظيمًا أو ليغفر الله له، ويعتق من النار.
والله سبحانه وتعالى الجواد الكريم، وقد علم فقرنا وحاجتنا للتجديد التوبة، ومنحنا فرصة أخرى لمغفرة الذنوب، والعفو عن التقصير؛ فها هو سبحانه وتعالى يسعد القلوب ويمنحنا الفرصة لنتوب، ويتفضل على العباد بنفحة جديدة مباركة طيبة هي فرصة جديدة لمحو الذنوب، وغسل الخطايا، ورفع الدرجات، ففي الحديث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن لربكم في أيام دهركم نفحات، فتعرضوا لها لعل أحدكم أن يصيبه منها نفحة لا يشقى بعدها أبدًا " رواه الطبراني وحسنه الهيثمي في المجمع 10 231، وعن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"افعلوا الخير دهركم وتعرضوا لنفحات رحمة الله، فإن لله نفحات من رحمته يصيب بها من يشاء من عباده، وسلوا الله أن يستر عوراتكم وأن يؤمن روعاتكم". رواه أبو نعيم، وابن عساكر، وصححه الهيثمي في المجمع، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة.
هذه الأيام فيها نفحة طيبة مباركة يمَنَّ الله تعالى بها علينا، وهي هذه الأشهر الحرم التي نحيا في ظلها الآن، وقد تميزت بميزات عديدة، وتفضلت بخصائص فريدة، ففيها فضائل كثيرة يُعظم فيها الأجر، ويَكثر فيها الفضل، رحمة من الله تعالى بالعباد؛ ليكون ذلك عونًا لهم على الإكثار من العمل الصالح والرغبة في الطاعة، وتجديد النشاط؛ ليحظى المسلم بنصيب وافر من الثواب، فيتأهب للموت قبل قدومه ويتزود ليوم المعاد.
"ومن فوائد مواسم الطاعة: سدّ الخلل واستدراك النقص، وتعويض ما فات، وما من موسم من هذه المواسم الفاضلة إلا ولله تعالى فيه وظيفة من وظائف الطاعة يتقرب بها العباد إليه، ولله تعالى فيها لطيفة من لطائف نفحاته يصيب بها من يشاء بفضله ورحمته، فالسعيد من اغتنم مواسم الشهور والأيام والساعات، وتقرب فيها إلى مولاه بما فيها من طاعات، فعسى أن تصيبه نفحة من تلك النفحات، فيسعد بها سعادة يأمن بعدها من النار وما فيها من اللفحات". (لطائف المعرف لابن رجب، ص 40).
فينبغي على المسلم أن يتعرض في هذه العشر المباركات لنفحات رحمة الله عز وجل، وذلك بالإكثار من العمل الصالح في هذه الأيام خاصة السفر لأداء الحج والعمرة، ومن لم يقدر الله له ذلك، فعليه بالتزود من سائر الطاعات، مثل: الصيام، والقيام وقراءة القرآن، و الإكثار من التكبير، والتسبيح، والتهليل، والتحميد والاستغفار.
فهذه العشر الأوائل من ذي الحجة موسم من مواسم الطّاعة العظيمة التي فضّلها الله تعالى على سائر أيام العام، فعن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله منه في هذه الأيام العشر. قالوا ولا الجهاد في سبيل الله! ! قال: ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله ولم يرجع من ذلك بشيء" رواه البخاري.
وعنه أيضًا رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما من عمل أزكى عند الله عز وجل، ولا أعظم أجرًا من خير يعمله في عشر الأضحى" قيل: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: "ولا الجهاد في سبيل الله عز وجل إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء " رواه الدارمي 1 357 وإسناده حسن كما في الإرواء 3 398.
فهذه النصوص وغيرها تدلّ على أنّ هذه العشر أفضل من سائر أيام السنة من غير استثناء شيء منها، حتى العشر الأواخر من رمضان. ولكنّ ليالي العشر الأواخر من رمضان أفضل لاشتمالها على ليلة القدر، التي هي خير من ألف شهر، وبهذا يحصل الجمع بين الأدلة.
لماذا فضلت هذه الأيام على بقية أيام العام؟
بين ذلك الإمام ابن حجر العسقلاني في فتح الباري فقال: "والذي يظهر أن السبب في امتياز عشر ذي الحجة لمكان اجتماع أمهات العبادة فيه، وهي: الصلاة والصيام والصدقة والحج، ولا يأتي ذلك في غيره" وقد يكون المقصود بالصدقة: الأضحية.
فضيلة هذه العشر جاءت من أمور كثيرة منها:
1. أن الله تعالى أقسم بها: والله تعالى لا يقسم بشيء من مخلوقاته إلا للدلالة على أهميته وعظمته، قال تعالى: (والفجر وليال عشر) قال غير واحد من السلف والخلف: إنها عشر ذي الحجة. راجع تفسير ابن كثير.
2. أن النبي صلى الله عليه وسلم شهد أنها أفضل أيام الدنيا كما تقدّم في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري. كما أنه حث فيها على العمل الصالح والإكثار منه.
3. أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر فيها بكثرة التسبيح والتحميد والتكبير كما جاء عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما من أيام أعظم عند الله ولا أحب إليه العمل فيهن من هذه الأيام العشر، فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد ". أخرجه أحمد، وصحّح إسناده الشيخ شاكر.
4. - أن فيها يوم عرفة وهو اليوم المشهود الذي أكمل الله فيه الدّين، فهو يوم مغفرة الذنوب، ويوم العتق من النيران، ولو لم يكن في عشر ذي الحجة إلا يوم عرفة لكفاها ذلك فضلًا.
وصيام يوم عرفة يكفّر آثام سنتين كما ورد في الحديث المشهور الذي رواه الإمام مسلم.
5. ـ فيها يوم النحر: وهو أعظم أيام السنّة على الإطلاق، قال صلى الله عليه وسلم (أعظم الأيام عند الله يوم النحر، ثم يوم القر) رواه أبو داود والنسائي وصححه الألباني، ويوم القر هو اليوم الذي يلي يوم النحر؛ لأن الناس يقرون فيه بمنى بعد أن فرغوا من الطواف والنحر واستراحوا.
وهو يوم الحجّ الأكبر الذي يجتمع فيه من الطّاعات والعبادات ما لا يجتمع في غيره، ففيه أكثر أعمال الحج من ذكر الله عند المشعر الحرام والتوجه إلى منى لرمي جمرة العقبة الكبرى، والطواف بالبيت طواف الركن أو الإفاضة، وذبح الهدى لمن يجب عليه، أو الأضحية لمن أراد، والحلق أو التقصير. ولغير الحاج: صلاة العيد، وإحياء سنة الأضحية، وصلة الأرحام، وبقية الطاعات.
فالأعمال الفاضلة التي ينبغي للمسلم أن يحرص عليها في عشر ذي الحجة كثيرة، وكل بحسب طاقته، فمن يحب أن يتقرب إلى الله تعالى بالصيام والذكر فليفعل، ومن أراد أن يؤدي الحج والعمرة فليسارع، و أعمال الخير كثيرة والفرص المتاحة عديدة.
فإدراك هذا العشر نعمة عظيمة من نعم الله تعالى على العبد، يقدّرها حق قدرها الصالحون المشمّرون. و واجب المسلم استشعار هذه النعمة، واغتنام هذه الفرصة، وذلك بأن يخص هذا العشر بمزيد من العناية، وأن يجاهد نفسه بالطاعة. وإن من فضل الله تعالى على عباده كثرة طرق الخيرات، وتنوع سبل الطاعات؛ ليجدد نشاط المسلم، ويبقى ملازمًا للعبادة ومواظبا على طريق الاستقامة.
فعلى المسلم أن يحسن استقبال مواسم الخير ويفرح بقدومها، ويجدد التوبة الصادقة النصوح، ويحاول مجاهدة نفسه ((والذين جاهدوا فينا لنهدينّهم سبلنا)) العنكبوت: 69. فيلزم نفسه بفعل الطاعات، وهجر المنكرات، والإقلاع عن الذنوب والمعاصي، فإن الذنوب هي التي تحرم الإنسان فضل ربه، وتحجب قلبه عن مولاه.
وعلينا أن ننوي و نعزم العزم الصادق على اغتنام هذه الأيام المباركة بما يرضي الله عز وجل، فمن نصر الله في نفسه وكان صادقا مع الله نصره الله عز وجل "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ" سورة محمد.
بل ونحاول أن نسارع إلى فعل الطاعات قال تعالى: ((وسارعوا إلى مغفرةٍ من ربكم وجنةٍ عرضها السماوات والأرض أُعدّت للمتقين)) آل عمران:133.
اسم الكاتب: علي مختار محفوظ
مصدر المقال: موقع لها أون لاين